recent
Words river

حكاية "ولد عطوش" أتعس مخلوق عاش بين المغرب وإسبانيا

Home

  

 


كتبها: أحمد الجلالي

ولد في ليلة ظلماء لأبوين مطلقين قبل أن يتزوجا بضغط من الأسرة. بدل أن يرى النور رأى الظلام في تلك الليلة الماطرة في خيمة بسفج جبل.

لما خرج من رحم أمه صرخ فنبحت كلاب السفح محتفية بقدومه إلى هذا العالم. ولدته أمه عطوش لوحدها دون مساعدة من أحد لأنه ببساطة لم يكن هناك أحد: أقرب قابلة لها كانت تبعد مسير ساعتين على ظهر بغل أو حمار أما أبوه فقد حاصره الثلج مع خرافه في مكان بعيد تلك الليلة.

عطوش دبرت حالها وحيدة وقطعت الحبل السري للوليد بعد أن كاد ينقطه نفسها من شدة الألم والمجهود الخارق الذي بذلته، سيما أنها كانت تعاني أصلا سوء التغذية وارتفاع الضغط وأمراضا أخرى لا حصر لها.

تحاملت عطوش على نفسها وأعدت بيضتين للدجاج البري، وذلك كان كل ما تناولت لترضع من أخطأت واباه فسمياه "سعيد".

انتظرت عطوش أياما إلى أن انقشع الثلج وعاد عبد القادر يقود قطيعه الصغير، ولما دخل عليها الكوخ عرف أنها وضعت فلم يسلم ولم يقل شيئا ولا كشف عن وجه الزائر الذي "شرف" الكوخ وساكنيه.

لا يدري أحد كيف عاش سعيد رغم الأمراض المبكرة التي أكلت جسده النحيل أكلا، كما لم ينتبه والداه إليه وهو يخطو نحو عامه السادس.

وفي صباح ذلك اليوم البئيس من تلك السنة التي صادفت جفافا قاحلا ضرب البلاد تأخرت عطوش كثيرا في نومها على غير عادتها ولما عاد عبد القادر ظهرا دخل عليها وصرخ شاتما كما هي عادته.

غير أن عطوش لم تبال بكلامه ولا كان في نيتها أن ترد عليه. عطوش كانت قد ماتت بعد الفجر وأسلمت الروح تاركه ذلك "السعيد" لأبيه الشقي.

لم يكتمل العام الذي غادرت فيه عطوش دنيا الناس حتى كان عبد القادر قد تزوج. لا أحد عرف كيف ولا اين عتر على الزوجة الثانية. قال لراع كان صديقه الوحيد في تلك الفيافي: لفراش برد..ثم تزوج؟

حول سعيد حياة زوجة أبيه إلى جحيم ولكنها جعلت من أيامه جحيما لا يطاق بحيث كان يبيت ليالي كثيرة خارج الخيمة إلى أن أجبر ابوه على التفكير في حل.

كان الحل الوحيد أمامه أن يأخذه ليعيش مع خالته ضواحي عرباوة. ولقد أخذه أخذا عسيرا بحيث وضعه في صندوق بلاستيكي خلفه فوق كرسي الدراجة النارية التي استأجرها من أحد معارفه.

وفي يوم صيفي حار جدا كان سعيد مثل ذئب صغير اصطادوه وساروا به إلى حديقة الحيوانات. كان جسده النحيل جدا، مع سمرة ورثها من أمه، ينزف عرقا ومع العرق امتزج مخاط أنف صغير برائحة الثعالب.

سلمه أبوه إلى خالته بلا مقدمات وكأنه يتخلص من قمامة وعاد إلى حيث الزوجة الثانية والمرعى والخرفان.

كبر سعيد إلى أن اصبح مراهقا ومارس كل الشقاوات التي يمكن تخيلها إلى أن أصبح كأي مجرم صغير قادر على اقتراف كل الحماقات وهو في تلك السن الطري، حيث عادى المدرسة والكتب وأقرانه والحيوانات والنباتات وحتى الحشرات كان يدعس عليها ويشتم الفراغ.

في سنة الخامسة عشرة حدث جديد في حياته عندما قرر أبوه أن يرحل من البادية إلى قرية تحبو لكي تصبح مدينة وباع كل شياهه وشيد دكانا وقرر أن يتاجر مع أهل القرية وفي السوق.

كانت حاجة عبد القادر ماسة إلى ابنه سعيد ولذلك أمر خالته بأن تعيده إليه وقد رضخت باكية لأن سعيدا كان أصبح ابنا حقيقيا لها تشتم فيه رائحة الراحلة عطوش.

تجددت حروب سعيد مع زوجة أبيه غير أنه في هذه المرحلة كان عوده قد اشتد كثيرا وبدأ يقاومها ولا يترك لها البيت كما كان يفعل في السابق.

لم يمارس سعيد رياضة تليق بسنه ولا عبر عن ميول يشبه أقرانه، فبينما كانوا يلعبون الكرة كان هو يفضل لعب الورق والتدرب على القمار مبكرا، وفيما كان المراهقون يشاكسون البنات لم تكن تغريه تلك الأفعال فيلوذ بصمت غير مفهوم.

لكن سعيد الصموت وقت عينه على ابنت موظف البريد ووعد نفسه دون أن يخبر أحدا أنها ستكون زوجته وراح يحلم كل يوم وليلة وشيد له ولها ولأطفالهما قصورا وأعد مزارع وغرس أشجارا وربط خيولا في الحظيرة الواسعة.

هناك هواية وحيدة عرف بها سعيد في القرية وهي ركوب الحمير والانطلاق على ظهورها بسرعة بين الأزقة حتى قيل عنه إنه مسكون بجنية يسابقها ويراها وحده.

وفي يوم من تلك السباقات المسحورة عتر حمار سعيد فرماه في حفرة قرب نباتات شوكية تعانق فيها الصبار مع الطلح فسقط مثل حجر ألقى به السيل.

ولسوء حظ هذا المراهق الشقي فقد وقع في حفرة تعتبر من باب "العرف" مرحاضا عموميا نسائيا، ولأن سعد سعيد عاتر أكثر من حماره فقد كانت في تلك اللحظة بالحفرة واحدة من أفجر سكان القرية..كانت تقضي حاجتها باطمئنان فنزل عليها سعيد من فوق ظهر حماره ورآها كما هي على الطبيعة.

حملقت فيه الفاجرة وقالت له: الآن وقد رأيت كل شيء عليك أن تفعل كل شيء. وكانت تلك هي المرة الأولى التي سيكتشف فيها سعيد الأنثى. اكتشفها مرغما في مكان توفرت فيه كل شروط العفونة والبذاءة وكل ما تهوى الشياطين.

اعتبر سعيد أن ما وقع له كان كابوسا وقرر أن يتعايش مع ما حصل له وعزى نفسه بأن الأمر سيبقى سرا إذ لا أحد رآهما.

غير أن سعيدا كان واهما لأن تلك الفاجرة الوقحة لم تكتف بما صنعت بـ "ولد عطوش" كما كانوا يلقبونه بل جعلت فعلتها مثار فخر بينها وبين نسوة من القرية فلم يكن صعبا أن تصل تفاصيل القصة إلى دكان أبيه معطرة ببهارات الزيادة والنقصان كأن قالوا إن ابن عطوش هو من ترصدها وضاجعها مرغمة وجعلوا منها ضحية "كان الله في عونها المسكينة كيف ستواري الفضيحة؟".

عبد القادر لم يكن بحاجة لتمحيص القصة أو تبين خيوطها وأجاب كل من أخبره بأن ابنه المتعوس "يفعلها ويفعل أسوأ منها.".

وفي مساء حزين لن ينساه جيران عبد القادر كاد يقتل ابنه من شدة الضر بعصا وسوط بغال وفي الأخير ارتكب بحقه ما هو أشنع.

قال لابنه: انظر يا ابن الزانية..انت كلب وفعلت فعل الكلاب الضالة وأنا ل أخيب ظنك في ولن أعترض على قراراك بمخاواة الكلاب.

سعيد غمغم وبكى بصمت وشتم وجوها كثيرة مرت أمام عينه في لمح البصر ولم يقل لأبيه شيئا.

ربط عبد القادر ابنه من عنقه بأنشوطة وأحكمها ثم قيد رجليه وجره جرا إلى حظيرة وربطه إلى وتد حيث كان يربط كلبته "اغنيمة" وكلبه "سنسال" وقال له: لقد أردت أن تكون كلبا يا ابن القحباء فعش مع الكلاب وانبح معهم.

أرغم سعيد على العيش مع الكلاب والأكل من أكلهم إلى أن صار ينبح مثلهم تماما بعد أسبوعين، ولم يحصل على شفاعة أبيه أو زوجته التي كانت تستغل وجود أبيه في الدكان لتأتي إليه وتسخر منه بطريقتها عبر تحريك شفتيها معا في اتجاهين متنافرين وتقول جملة وحيدة: "غززا فيك أولد عطيطيشة" ثم تنصرف.

ذات ليلة استطاع سعيد أن يفك وثاقه ويتخلص من سجنه الكلبي ولم يعرف أحد بعدها كيف غادر القرية دون أن يراه أحد وتعددت الروايات سنوات بعد ذلك ولم يظهر له أثر.

قصد سعيد منطقة كتامة واشتغل في "الكيف" حمالا ثم مهربا صغيرا إلى أن وجد طريقه إلى الهجرة سرا واشتغل راعيا لدى أحد المزارعين الإسبان وتعلم مهنا كثيرة وارتاد حانات بلا حصر.

شيء وحيد ظل يخشاه ويهرب منه ألا وهو النساء إذ كلما نظرت إليه فتاة رأى على وجهها ملامح زوجة أبيه وفي كل مرة اقترب أكثر من امرأة استم رائحة تلك الفاجرة التي بسببها ربط ونام مع الكلاب وأكل معهم.

حاول مرارا أن يجد طريقا ليراسل ابنة موظف البريد غير أن حاجز حكايته التي سارت بتفاصيلها ركبان حمير وبغال القرية قد وصلتها فيكف عن هذا التفكير نهائيا.

وبناء على نصيحة صديق تعرف عليه في بلاد الغربة وارتاح له كثيرا فقد قرر أن يفعل كما أوحى له: أن ينسى الماضي ويعيش حياته دون أن يلتفت للخلف.

في تلك الليلة اقتنى أفخم أنواع الخمر وطفق يشرب من بداية المساء إلى بزوغ الفجر، وانفكت عقده كلها وقرر أن يواجه الواقع كما هو وبما فيه وجلب ورقا وقلما أسود وكتب:

"عزيزتي كريمة،

لا تصديقهم. فأنا لست كلبا..."

وانهار  باكيا ثم نام، وفي نومه العميق ذاك كوابيس مخيفة كان أشنعها صورة الفاجرة وهي ترغم كريمة على حلق شعرها الأشقر بموسى صدئة.

 

google-playkhamsatmostaqltradent